أدورنو والموسيقى الجماهيريّة/ الجزء الأول

[\"???? ?????? \"?? ?????????? ] [\"???? ?????? \"?? ?????????? ]

أدورنو والموسيقى الجماهيريّة/ الجزء الأول

By : yara saadi يارا سعدي

تضم هذه المقالة جزءان، نحاول أن نتناول من خلالهما موقف ثيودور أدورنو من الموسيقى "الخفيفة" أو الجماهيريّة. سنتناول في النص التالي: خلفية عن حياة أدورنو، موقف مدرسة فرانكفورت من جدليّة التنوير، "صناعة الثقافة" وأخيراً موقف أدورنو في الموسيقى الجماهيريّة بشكل خاص. ليهيّئ هذا الجزء سياق الجزء الثاني، وهو عبارة عن ترجمة دراسة لأدورنو "الموسيقى الجماهيريّة في المجتمع الرأسمالي" إلى العربيّة، والتي تسلّط الضوء على تنميط الموسيقى الجماهيريّة.

أدورنو الاحتجاجي، إلى المحتج عليه

ولد أدورنو في مدينة فرانكفورت (1903) بألمانيا، في بيئة غنيّة لأب يهودي، تحوّل فيما بعد إلى البروتيستانتيّة، يمتلك شركة لتصدير النبيذ، ووالدة احترفت الغناء. كبر أدورنو في كنف الموسيقى "الجادّة" كما يسمّيها، وتعلم عزف البيانو منذ الصغر. أما تجربته خارج الجو العائلي المريح فكانت سيئة، خاصة في المدرسة حيث لم ينجح بالتأقلم وشعر بنفور من زملائه. وتزايد نفوره من مجتمعه مع تزايد الشعور القومي الألماني بعد الحرب العالميّة الأولى، مما كوّن لديه ذهنيّة رافضة للهويّة التي بحثها لاحقاً في كتاب شارك بكتابته "دراسات في الشخصيّة الشموليّة" (Studies of the Authoritarian Personality) والذي أصدر في الولايات المتحدة مع نهاية الحرب العالميّة الثانية سنة 1950.

"كطالب (جامعي)، كان أدورنو معروفاً كشخص مؤثّر وناقد موسيقي بروح المعاصرة الراديكاليّة. ومن وقتها دعم الملحن شنبيرغ، بعكس كثيرين. وكما كان يعزف معزوفات لحّنها هو". (1) وبعد أن أنهى دراسته في فرانكفورت، انتقل إلى فينّا التي رفض فيها الفصل بين المواضيع التي تعنيه: الفلسفة والموسيقى. حيث كان هذا أيضا توجهّه في المستقبل ليتناول الموسيقى وعلم النفس وعلم الاجتماع والفلسفة سويًا.

 [الفيديو: مقطوعة ألّفها أدورنو للبيانو (1921)]

في ذلك الوقت، وفي بداية عشرينيّاته، تبنّى أدورنو الأسلوب الذي حوّله لأحد الباحثين المرموقين بعلم اجتماع الموسيقى، والذي عمل على تطوير الأفكار التي غيّرت طريقة تناول الأجسام الأكاديميّة والعلوم الإنسانيّة للموسيقى من آليّة تعكس الواقع فحسب إلى عنصر فعّال يستطيع أن يطرح نتائج مؤثّرة. إضافة إلى تغييره لاتجاه النقاش حول الموسيقى من التعامل مع العنصر الذي يقود الموسيقى، إلى التعامل مع ما تولّده الموسيقى. (2)

في فينّا، تلقّى أدورنو دروساً على البيانو والتلحين على يد Alban Berg (طالب شنبيرغ). وعمل كمحرّر بمطبوعة Anbruch المتخصّصة بالمقالات الموسيقيّة المعاصرة والراديكاليّة. وعندما عاد إلى فرانكفورت، عزّز علاقته بمؤسّسة البحوث الاجتماعيّة، حتى مارس عمله كمحاضر فلسفة بجامعة فرانكفورت سنة 1931 حتى صعود النازيّة في 1934. حينئذٍ، بدأت رحلة المنافي أوّلاً في بريطانيا التي علّم فيها بجامعة أوكسفورد لمدة أربعة سنوات، ثم إلى أميركا، حيث تنقّل بين نيويورك ولوس أنجيليس، منجزاً عدة أبحاث، ومجرياً محاضرات إذاعيّة عن الموسيقى.

هندست تجربته الأميركيّة نظرته لتأثير التنميط كنتيجة للرأسماليّة والاحتكار على المنتج الثقافي والفنون والعلوم. مراقباً عمليّات تقليص التنميط للفروقات بين الناس، ومعايناً تأثيراتها النفسيّة على المجتمع الأميركي، كتأثيرها على إرادة الفرد في أن يكون جزءاً من الجموع والسائد، وانعدام الموقف النقدي. بالتالي، ادّعى أدورنو، وبقسوة، أنّه لا يوجد في الولايات المتّحدة من هو مسؤول عن أفعاله وطريقة استيعابه وإدراكه للعالم، وبأن الإنسان الأميركي يتصرّف بحسب الضغوطات الجماعيّة والتقاليد القائمة في الدوائر التي ينتمي إليها. منتقداً توجهات المجتمع الأميركي معتقدًا بأن "خطر الأنظمة الاستبداديّة موجود داخل المجتمع الحديث" (راجع المصدر الأول، 2009:6).  

بعد انتهاء الحرب العالميّة الثانية وانهزام النازيّة، عاد أدورنو إلى ألمانيا وجامعة فرانكفورت. مجدّداً نشاطه بمؤسسة البحوث المجتمعيّة مع زميله ماكس هوخهايمر الذي عمل معه على إنجاز أهم مخرجات "مدرسة فرانكفورت": الجدليّة السلبيّة"، ومباشراً العمل بكتاب "نظريّة الجماليّات" الذي لم يستكمله.

خلال سنواته الأخيرة، تعرّض أدورنو لإدانة الحركات الطلابيّة اليساريّة الراديكاليّة، الذين عبّروا عن خيبة أملهم فيه خلال فترة التمرّد الطلابي في أواخر الستينيّات. حيث قدّم ادّعائه في واحدة من أواخر محاضراته من خلال التأكيد على التفكير النّقدي الذي أدى به إلى رفض الاحتجاجات الطلابيّة آنذاك لادّعائه أن "العنف الذي يميّز هذه الاحتجاجات يرمز لحركة غير ديمقراطيّة ستهيّئ الطريق للفاشيّة". إثر الاحتجاجات والإدانات والضغوطات التي تعرّض لها، قرّر أدورنو قضاء فترة إجازة في السويد، حيث داهمته سكتة قلبيّة في 6 آب/ أغسطس 1969 أدّت إلى وفاته.

 [أدورنو يتحدّث في هذا المقطع عن رفضه لوظيفة الموسيقى الجماهيريّة كموسيقى احتجاجيّة (خيار الترجمة إلى العربيّة متاح)]

 جدليّة التنوير

لم يهتم أدورنو بالموسيقى كرمز أو مرآة لواقع ما، بل كآليّة لتمرير وعي قد يكون إيجابيّاً أو سلبيّاً. وبالتالي: ليس هناك فصل بين نهجه وتفكيره حول الوعي في المجتمع الحديث وبين تناوله للفن والموسيقى. بل هي جزء من رؤيته الشاملة حول جدليّة التنوير، كما سنستعرضها تالياً.

قبضت الحداثة على، وحتّى سوّقت التنوير بالمعنى العابر للسياق التاريخي (Transhistorical)، على أنّها سيرورة هدفها التهيئة لتحرّر الإنسان من قيود الطبيعة، وإبراز الفرديّة، وتحقيق إمكانيّات الفرد في المجتمع. وتم اعتبار العقلانيّة شرطاً رئيسيّاً لتبلور الثقافة والتعليم كوسيلة للتنوّر. على أساس هذه الآيدولوجيّة، ظهرت شعارات مثل: "التعليم للجميع"، "إنهاء امتيازات النخب"، وشعار الثورة الفرنسيّة الشهير: "حريّة ومساواة وإخاء". وبنفس الفترة، تطوّرت التكنولوجيا والاقتصاد بهدف تحسين حياة الفرد بعيداً عن تعلّقه بالطبيعة.

نظرت مدرسة فرانكفورت إلى هذه الإنجازات بعين الشك. ففي كتابهما "جدليّة التنوير" (3)، يفسّر هوركهايمر وأدورنو مصطلح التنوير كتجسيد لجدليّة بين العقلانيّة الآليّة (حسب فايبر) المتزايدة من ناحية، وسيطرة عميقة لمنظومة الإنتاج الرأسمالي للفرد من الناحية الأخرى، القوّتان اللتان أنتجهما بنفسه. مستخلصان أن التنوير هو سيرورة لا تنويريّة، بل قمعيّة بطبيعتها، وتتضمّن اغتراباً ذاتيّاً واستعباداً متزايداً. وبالتالي، طرحت مدرسة فرانكفورت تساؤلات حول صحّة إنجازات التنوير، وثمن تطبيقها على المستوى الفردي والمجتمعي. إذ تساءلا: هل يتحوّل الإنسان في هذه السيرورة إلى كائن فردي بالفعل؟ وهل حسّن التنوير من أوضاع الحياة؟ وهل حقّاً أصبحت أساسيّات مثل التعليم والثقافة متاحة للجميع؟

تدّعي مدرسة فرانكفورت أن سيرورة التنوير، التي تجسّدت في الثورة الفرنسيّة، خدمت بشكل أساسي الطبقة المسيطرة، البرجوازيّة في حينها، وحسّنت من شروط حياتها. بكلمات أخرى، لم تكن المصلحة العامّة سوى وهم، إنّما كانت مصلحة تخصيصيّة محدودة. وهذا ما أثبتته الفجوة العميقة بين الإدعاءات العالميّة وبين الواقع، وبالتالي: الثورة الفرنسيّة لم تكن طبقيّة تسعى لتغيير التراتبيّة الطبقيّة، بل سياسيّة. مثال على ذلك: تطبيق شعار "التعليم للشعب" فيما يسمّى: تعليم للماكنة، أو التعليم شرطاً للعمل؛ في الفترة الصناعيّة، أصبح على الفرد معرفة القراءة والكتابة والرياضيّات ليكون قادراً على تلبية معايير التجارة المتطوّرة والعمل. أي أن تعليم الشعب اقتصر على "التعليم للماكنة" والذي تحوّل إلى شرط ضروري لخلق وإعادة إنتاج نمط الإنتاج الرأسمالي، بينما بقي التعليم بمفهومه الأوسع مقتصراً على الطبقة البرجوازيّة.  انسحبت ذات السيرورة على الثقافة، ومن ضمنها موسيقى المنصّة والحفلات، حيث لم تكن النخبة والبرجوازيّة معنيّة باستقبال الجماهير في هذه القاعات، وبالتالي: تم خلق منظومات إقصائيّة طبقيّة جديدة، ومنها: صناعة الثقافة.

من هنا، يحاجج منظّرو مدرسة فرانكفورت في أن عبوديّة الإنسان الجديد آتية من تسليمه الطبيعة ونفسه وبخياره لمنظومة السيطرة. وهذه نتيجة لتذويت الدونيّة، وقمع الحضارة. ما يؤدّي إلى إمكانية بروز أنظمة سياسيّة واجتماعيّة فاشيّة ووحشيّة ضمن إطار الحريّة والديمقراطية، وتجسّد قوّة القمع في القضاء الممنهج على المقاومة والفردانيّة عن طريق دمجها بالنظام، وبالتالي احتواؤها.

ادّعى أدورنو أنّ ماهية الإنسانيّة، كنتيجة لهذه السيرورة، اندثرت وتحوّلت إلى منظومة وظائف اجتماعيّة. كما اندثرت ماهية الفن أيضاً ولم تعد مستقلة. فبحث بما سمّاه "فشل المنطق" الذي بلغ ذروته أثناء أحداث القرن العشرين الكارثيّة. واهتم، بشكل خاص، بتغيير الوعي الذي أدّى إلى سيطرة هذه الأنظمة الفاشيّة والنّازيّة (دينارو: 2003، راجع المصدر الثاني). في حين أن مشروع "جدليّة التنوير" بدأ كإشكاليّة فلسفيّة وموضوع فلسفي، استمرّ كبحث اجتماعي- نفسي للوعي البشري. إذ رأى أدورنو أن خطورة سيرورة التنوير لا تكمن فقط في عدم إبراز الفردانيّة بالفعل، بل أيضاً في خلق منطق موحّد لدى جميع البشر، وبالتالي يصبح الوعي محافظاً. كما تستطيع هذه السيرورة احتواء المقاومة، وبالتالي منع أي ردّة فعل. بالنهاية، تُقحم سيرورة التنوير هذه على الإنسان أنماط تفكير استبداديّة تتجاوب مع أساليب معروفة سلفاً، وليس بمنطق التعامل مع مخرجات الواقع. مثلاً: بنيت الموسيقى الجماهيريّة أو "الخفيفة" (Pop Music) من أنماط معروفة مسبقاً(4). تتركّز خطورة هذا المبنى في السيرورة التي ترافقه، وهي فصل الوعي عن الواقع، حيث تستبدَل القيمة الحقيقيّة للمنتوج بقيمة التبادلات الحديثة للمنتوجات المتعلّقة بالثقافة التي بنيت حوله، وبذلك تتكوّن في وعينا قيمة جديدة للمنتوجات التي لا تطابق قيمتها في الواقع. يدّعي أدورنو أن إحدى النتائج البارزة لهذا المنطق الجديد هو العبادة العمياء للعلوم. لذلك، رأى أن وظيفة الفلسفة الحديثة هي الكشف عن هذه الفجوة بين المنطق الجديد والواقع.

الجدير بالإشارة أن أدورنو لم يبحث عن دمج الواقع والأفكار، بعكس ماركس وهيغل اللذان قدّما جدليّة إيجابيّة تسعى إلى يوتوبيا- مثاليّة معيّنة، بل اكتفى بالجدليّة السلبيّة، ساعياً لتحسين المنطق وكشف تعقيدات الواقع. وبسبب ذلك، آمن أن حل التنوير هو بالتنوير نفسه، وبعقلانيّة فقط.

 صناعة الثقافة

ادّعى أدورنو أن الفنون تتخللها حقيقة غير ملموسة بحاجة لتفسير فلسفي، وأنّها، بكلماته: "قوّة التقدّم المجتمعي"؛ فمن جهة، اعتبر أن الفنون مستقلّة وتهدف إلى رفض الواقع القمعي، ومن جهة ثانية تهدف لإيقاظ الوعي وصولاً إلى إمكانيّة إقامة واقع اجتماعي بديل. وأن الفنون تعمل بوظيفة نقد الـ"أنا"، ونقد الواقع القائم من خلال التجربة الجماليّة، حيث يدعي أدورنو أن على الفن صدم الفرد جماليّاً حتى يعيش تجربة ماهية العمل الفنّي. وعلى النقيض من ذلك، تهدف الثقافة "الانحطاطيّة" إلى المحافظة على الواقع الموجود.

ادّعى أدورنو وهوخهايمر (1947) في مقالهما "صناعة الثقافة: التنوير وخدعة الجماهير" (فصل من كتاب "جدليّة التنوير"، راجع المصدر الثالث)، أن الثقافة اليوم تتعلّق بالمجتمع الصناعي. ويحدّد هذا الربط الثقافة إلى درجة أنّها تتحوّل، بذلك، إلى ثقافة متجانسة، من حيث أن الأسعار المختلفة للمنتوجات لا تعكس اختلاف الجودة (كمثال عن الفشل في المنطق المذكور أعلاه)، بل توفّر ترتيباً هرميّاً للمنتوجات بجودات "مختلفة" تناسب أفراداً بمستويات مختلفة. أي أن المستهلكون تحوّلوا إلى مادة ثابتة يتم تقسيمهم إلى تصنيفات تحتوي على أنماط جاهزة.

استعمل أدورنو وهوخهايمر مصطلح "صناعة الثقافة" كبديل عن مصطلح "ثقافة الجماهير"، وذلك بهدف إلغاء، من الأساس، كل التفسيرات التي تدّعي أن هذه الثقافة نبتت بشكل عفوي من الجماهير، أو أنّها صيغة الموسيقى الشعبيّة الآنيّة. نبعت صناعة الثقافة من سيرورة جدليّة الحضارة التي سيطر فيها الإنسان على الطبيعة، وبما في ذلك سيطرة الإنسان على الإنسان الآخر. ورأى أدورنو أنّه لا يمكن تجسير الفجوة ما بين الفن المستقل وصناعة الثقافة. إذ مع أن الفنون كانت دوماً سلعة، إلا أنّها لم تكن يوماً سلعةً فقط. بالمقابل، صناعة الثقافة هي فقط سلعة من دون الحاجة لإثبات ذلك لأنها تعرّف ذاتها كـ"صناعة"، ما يجعلها جزءاً من الواقع، وليس فنّاً. تتجلّى ماهية صناعة الثقافة حسب أدورنو في تكرار الواقع، لتتحوّل الثقافة لـ"كيتش" الذي يعرّفه أدورنو على أنّه: نسيج ثابت يعيد ويكرر ذاته، وينذر بلاتغيير أبدي ومتواصل. ومن هنا، يقول أدورنو أن للـ"كيتش" سحراً تخديريّاً كان موجوداً طيلة الوقت، إلّا أنّ الاختلاف في صناعة الثقافة اليوم عن الماضي، أنّه في الماضي سيطرت الثقافة "العالية" التي منعت من التكرار غير الآلي للنظام، وبالتالي انفصلت عن الـ"كيتش". لذلك، يقول أدورنو أن الجماهير ليسوا معيار الحقيقة لصناعة الثقافة، بل آيدولوجيّتها، فصناعة الثقافة توهم مستهلكيها بأنها تكيّف ذاتها مع ردّة فعل الجماهير، بينما في الواقع هي التي تكوّنه وتمنح الجماهير عدّة منتوجات متشابهة تعمل على ترفيههم بدلاً من صدمهم وزعزعة الوضع الراهن. بهذا الطريقة تضعف "الأنا"، وتختفي ماهية الفن، وصولاً إلى ما سمّاه: "نزع الفن عن الفن". 

 أدورنو والموسيقى

للموسيقى، حسب أدورنو، وظيفتان معرفيّتان، الأولى: تجسيد حقيقة الفرد، وعلاقته مع البيئة والمجتمع. تذكّر هذه الوظيفة الفرد بخساراته: الأوضاع المختلفة تحت نظام مختلف، لأن الموسيقى قوّة التقدّم الاجتماعي المتواجدة بمقدّمة المجتمع. والوظيفة الثانية: تجسيد العلاقة بين التفاصيل والكلّي، وذلك من خلال وظيفة الموسيقى المجرّدة التي ترسي مثالاً تعليميّاً بديلاً لطريقة ترتيب المواد. (دينارو: 2003، راجع المصدر الثاني). لكن الموسيقى تحوّلت، كجزء من الثقافة في فترة التنوير، إلى جزء من الصناعة التي تكسر حالة عدم الخضوع، وتجبرها على الخضوع لذات المعادلة الثابتة التي تبدّل المقطوعة الموسيقيّة. يتم التعبير عن هذا الانتصار من خلال الكلّي والتفاصيل، بما أن المعادلة ترسّخ الكلّي من دون علاقته مع التفاصيل. ففي مقال "صناعة الثقافة: التنوير وخدعة الجماهير"، يتناول هوركهايمر وأدورنو الأنماط المتكرّرة بصناعة الثقافة للمعادلة الثابتة في الموسيقى (أدورنو وهوركهايمر، المصدر الثالث 1947:162): "ليس فقط أنّه يتم تكرار الأنماط غير المتغيّرة بشكل دوريّ، مثل المشاهير ومسلسلات التلفزيون، بل حتّى المحتوى المعيّن للترفيه نابع من هذه الأنماط، وتغييره ظاهريّاً فحسب. فالتفاصيل والعناصر ذات قابليّة للتبديل. فسلسلة الأبعاد القصيرة لنوتة، وقوع البطل في فخ عابر(..) جميعها كالتفاصيل الأخرى كليشيهات جاهزة سلفاً يمكن استعمالهم في كل مكان. لا تتعدّى وظيفتهم دورهم في المخطّط الكامل. فالتأكيد على المخطّط يوفّر لهم الحق في وجودهم... ففي الموسيقى الخفيفة، يمكن للأذن المتدرّبة، بعد الاستماع إلى أوّل جملة موسيقيّة لأغنية مشهورة، تخمين بقيّتها، لتشعر بالسعادة عند تحقّق توقّعاتها. تطوّرت صناعة الثقافة إلى نظام ترفيهي (..) فيها يتم تفضيل تفاصيل تقنيّة عن المقطوعة التي روّجت الفكرة، وتمت تصفيتها معه".

كما نستنتج من هذا الاقتباس، رأى أدورنو أن ثقافة صناعة الثقافة "كيتش". وأن فكرتها تتجسّد في الموسيقى من خلال التنميط - مصطلح قام أدرونو ببلورته بسياق الموسيقى الخفيفية في مقاله "الموسيقى الجماهيريّة في المجتمع الرأسماليّ"(5) والذي ترجمته "معازف" في الجزء الثاني لهذا المقال. حيث يفسّر أن التنميط في المقطوعات يتجسّد من الميزات العامّة وحتى الخاصّة جداً. ويذكر مثالاً بارزاً: وظيفة اللازمة المحدّدة بـما يقارب الـ32 خانة موسيقيّة، تتجاوب مواضيع الأغاني مع المعايير وتقسّم إلى أنواع ثابتة، كذلك تتجاوب التفاصيل الصغيرة في الموسيقى الجماهيريّة مع المعايير، فعدد العناصر معروف سلفاً. مثلاً: "النوتات "القذرة"، الأكوردات، والتناغم في بداية ونهاية الأغنية، إذ يجب أن يكون هناك تناغماً أفضل من التناغم البدائي للمعادلة النموذجيّة المنمّطة. وبهذه الطريقة، تنفصل كل الإشكاليّات الموسيقيّة في المقطوعة عن النتيجة العامّة الثابتة والمعروفة سلفاً، وبالتالي: العام ممنوح سلفاً، وتقبّل الجمهور يسبق النتيجة. وبكلمات أدورنو: معطى سلفاً، مقبول سلفاً حتى قبل خوض التجربة ذاتها.

يحاجج أدورنو في المقال بأن الجمهور يدرك الأغاني كمنتوجات جديدة ومختلفة رغم معالجتها الثابتة. وذلك بسبّب ما أسماه "عنصر الفردانيّة" للتفاصيل داخل الأغاني كنتيجة لهذا العامل، يتجاوب الجمهور مع التفاصيل بدرجة أكبر من الكلّي، وهكذا يتناول المقطوعة كأغنية جديدة. إلا أنّه يفسّر أن عنصر الفردانيّة هو، في الواقع، شبه فرداني، وذلك لأن تفاصيل الموسيقى الجماهيريّة الخفيفة لن تشكّل الكلّي أبداً. فمن الممكن تغيير أماكن التفاصيل لأنّها ليست بذي أهميّة أو وظيفة حقيقيّة، مثل: أسماء الفرق أو الأغاني، وتصميم المنصّة ومقطوعات الارتجال. إذ توفّر كل هذه الأمور للمستمع شعوراً بأن ثمّة عناصر مميّزة في الأغنية بما يمكّنه من التعلّق بها، لكنّه شعور غير واقعي، حيث أن هذه التغيّرات لا تؤثّر في المعادلة الثابتة، كما وأنها تظهر كإمكانيّات وأصنافاً موسيقيّة كثيرة ومختلفة، لكنها في الواقع تشبه بعضها. تجربة المستمع الثابتة في الموسيقى الخفيفة لا تؤدّي إلا إلى ردود فعل منمّطة تدخل المستمع إلى منظومة ردود فعل ثابتة، وهذا ما يمنع عنه التجربة الفردانيّة. وذلك خلافاً لتجربة المستمع في الموسيقى الجادّة، حيث يهتم ويتعلّق بالحبكة المعروضة ويتساءل عمّا سيحدث لاحقاً وكيف ستتبلور، في هذه الحالة لا توجد معادلات ثابتة ومخطط جاهز، بل تبني العناصر المخطّط الكلّي وبالتالي تحافظ على فردانية ردود الفعل (كيفي : 2002، راجع المصدر الرابع).

فصناعة الموسيقى لا تضر بوظيفة الموسيقى والثقافة فحسب بل أيضاً بوعي الإنسان، وردود فعله وأنماط تفكيره. وبكلمات أدورنو "الموسيقى الجماهيريّة بشكل موضوعي ليست حقيقيّة وتؤدي إلى عجز في الوعي للمكشوفين إليه" (راجع مصدر رقم 6 1976:37-8). أما نتائجها المباشرة فبتنمية بشر غير مستقلين، وبلا قدرة على الحكم واتخاذ قرارات مدروسة.

رغم كتاباته العديدة عن صناعة الثقافة والموسيقى الجماهيريّة، إلا أن أدورنو كان واعياً بأن الحدود بين الموسيقى الجديّة والجماهيريّة ليست واضحة دائماً. ولعلها في الحاضر صارت حتى أقل وضوحاً، حيث أن الفترة التي تبلورت بها نظريّة أدورنو كانت فترة مشحونةً جداً في الحرب العالميّة الثانيّة، إضافة إلى حقيقة أن أدورنو لم يعتمد هذه النظريّة وفق أبحاث تطبيقيّة. أما الآن، في وقت تتعمّق فيه الرأسماليّة بحيث لا مجال لانهيارها إلا بانهيار الحياة كما نعرفها، إضافة إلى تعمّق صناعة الثقافة التجاريّة وترسيخها كطريقة حياة وثقافة مهيمنة وتداخلها بالنشاط السياسي، يمكن لنا أن نطرح تساؤلاتنا حول صلة النظريّة بواقعنا الآن، وحول نتائجها إذا ما قورنت بواقعنا في عصرنا هذا.

[نشرت المقالة للمرة الأولى على “معازف". يعاد نشرها بالاتفاق مع المجلة]

هوامش: 

(1) Schweppenhauser, G. (2009)‫. Theodor W. Adorno an introduction‫. Duke University press Durham and London.

(2) DeNora, T. (2003). After Adorno; rethinking music sociology. Cambridge University Press. 

(3) Adorno and Horkheimer (2002)‫. Dialectic of Enlightenment‫. Stanford: Stanford UP‫.

(4) Kivy P. (2002). Introduction to philosophy of music. Oxford : Clarendon Press.

‪(5) Adorno, T, (1941). “On popular music”. 

‪http://www.icce.rug.nl/~soundscapes/DATABASES/SWA/On_popular_music_1.shtml

(6) Adorno, T, (1976). Introduction to the sociology of music . Trans. E.B.Ashton. New York: Continuum‫. 

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • يوتوبيا "اختلاف حيفا" ومحاولة ترويض الجسد الفلسطيني

      يوتوبيا "اختلاف حيفا" ومحاولة ترويض الجسد الفلسطيني

      يعج شارع يافا في مدينة حيفا المحتلة عام 1948، بشباب وشابات فلسطينيين. وتتوزع علي جانبيه مقاهٍ وحانات ذات أسماء عربيّة وعروض موسيقيّة وثقافيّة بعضها لفرق وعازفين فلسطينيين. ولو دققنا في المباني لاكتشفنا ملامحها العربيّة أيضًا. في أعقاب ترميمات شاملة قد يبدو شارع يافا للبعض كمشهد "يوتوبي"؛ حيّز مدني فلسطيني شبابي. أما البعض الآخر فقد يصفه بالنقيض؛ مشهد ديستوبي، مفصول عن ماضيه، يفرض مزاجا واحدا ووحيدا من التصرف فيه.

تنظيم المخلّ بالنظام؟ الباعة المتجولون والدولة التنمويّة

 عندما أصدر الرئيس مرسي في العشرين من تشرين الثاني (من العام الماضي) مرسومه المثير للجدل والذي يقع خارج صلاحياته الدستورية، والذي قام لاحقاً بإلغائه جزئياً جرّاء ضغط شعبي هائل، وعد باستعمال صلاحياته التشريعية الإستثنائية الممنوحة له فقط في حدود مقلصة للغاية. وعندما قام فعلياً بممارسة هذه الصلاحيات، قام بذلك سريعاً من أجل سنّ قانون رقم 105/2012 وذلك في خضم ما بات يوصف –دون مغالاة- باللحظات الأكثر حسماً في تاريخ مصر الحديث. حتى المحلل السياسي الأكثر تمرّساً يمكن أن يغفر له إذا ما افترض من باب السذاجة أن هذا القانون يتعلق بالاستفتاء الوشيك على مسودّة الدستور التي أدت الى استقطاب حاد البلاد، أو أنه يتعلق بدور الجيش في الاقتصاد. إلا أن ما يثير الاهتمام هو أن قانون 105/2012 كان قد صُمم من أجل زيادة الإجراءات العقابية ضد الباعة المتجولين، فقد رُفعت العقوبة على الإخلال المنصوص في القانون رقم 33/1957، والتي كانت، حتى ذلك الوقت، تنظم عمل ما يقدر بخمسة ملايين بائع متجول في مصر؛ من شهر واحد إلى ثلاثة أشهر سجن والى خمسة آلاف جنيه غرامة بدلاً من ألف جنيه. لكن، هل كانت هذه على ما يبدو واحدة من إخفاقات مرسي اللانهائية في الأسابيع الأخيرة التي تعكس عدم تواصله بتاتاً مع الحقائق السياسية؟ أم أن هناك المزيد مما يمكن قراءته في مثل هذا القرار من حيث طبيعة علاقات الدولة والمجتمع، الاقتصاد والحيز العام في المرحلة الثورية الحالية؟

إن ثورة 25 يناير، والثمانية عشر يوماً الصاخبة في ميدان التحرير والمسيرات والاحتجاجات العملاقة والاعتصامات التي تلتها والتي اجتاحت البلاد منذ ذلك الوقت، قد أدت الى أكثر من مجرد إسقاط حسني مبارك. فهي تطرح تحديات لهؤلاء الذين خلفوه. الثقافة السياسية الجديدة التي نشأت في صحوة هذه الثورة، كانت قد أبرزت في المقام الأول، الحسّ الفردي والجماعي للمطالبة بالحرية. وعليه فقد قامت بتغيير ممارسات وإدراكات حول الحيز العام. فقد قام النظام التقليدي للحفاظ على الأمن في الحيز المديني المصري، معززاً بكل من قانون الطوارئ المشهور وحضور بوليسي مكثف في الشارع والجدران العالية المنتشرة حول المجمعات السكنية المسوّرة ومراكز التسوق، بإرهاب المواطنين لوقت طويل وحدّ من قدرتهم على استملاك الحيز العام. سواء كانوا نشطاء يدفعون للتعبئة ضد النظام أو كانوا عشاقاّ يبحثون عن لحظات حميمية سريعة، أو فقراء يأملون بلحظات من الراحة من شقائهم اليومي الطاحنّ؛ فقد مُنع المصريون جسدياً من الوصول إلى الحيز العام. الإحساس بالقوة الكامنة الذي تم الحصول عليه أثناء الخروج الى الشوارع على مدى العاميّن الماضيين لم يتمكن من إلغاء حكم السيطرة بالكامل ولكنه بالتأكيد أدى الى ما بات يسميه الكثيرون "إعادة الاستيلاء" على الحيز العام. لا يمكن بعد اليوم تقييدالملايين التي اختبرت الحرية عبر الخروج الى الشوارع للتظاهر، للتناقش وتبادل الأفكار مع رفاقهم من المواطنين الذين لم تتح لهم فرصة التلاقي علناً من قبل، من قبل النظام القمعي ذاته، على الأقل ليس بشكل تام.

إلا أن إكتشاف فرص وموارد جديدة عادة ما يؤدي إلى معارك على الملكية والاستحقاق. لذلك فالمقدرة على إستعادة الحيز العام سرعان ما خلقت نقاشات حادة حول أحقية الوصول لهذا الحيز، من يتوجب إقصاؤه وما هي قواعد التواصل التي يجب اعتمادها بين المواطنين من ذات الدولة. الفئات السياسية المتحاربة قدمت مثالاً لهذه المعركة الجديدة في حملاتها للمطالبة بنسب مواقع تجمّع معينة لها، وعلى رأسها ميدان التحرير الذي بات موقعاً أيقونياً. وكان رسم كاريكاتوري تم تناقله بشكل واسع على الفايسبوك بعد الصدامات بين القوى المعارضة والمؤيدة لمرسوم مرسي الرئاسي حول استعمال ميدان التحرير كبؤرة الزلزال لحملاتهم الشعبية لتعبئة الجماهير، قد عكس هذا النزاع بشكل كبير. ويقترح الرسم الكاريكاتوري مجموعة من القواعد "لجدول ميدان التحرير"، حيث يتم حجز أيام السبت والإثنين والأربعاء لمؤيدي السلفيين والأخوان المسلمين، بينما تُحجز أيام الأحد والثلاثاء والخميس للثوار. وأخيراً فإن يوم الجمعة قد تم تحديده للصيانة والتنظيف وتبادل أسرى "الحرب". إلا أنه، ومنذ 25 يناير 2011، تعدّت المعارك حول ملكية واستحقاق الحيز العام إلى ما هو أكبر من الصراعات الدائرة بين القوى السياسية المتحاربة. الإمكانيات الجديدة لاستحقاق الحيز العام أحيت مخاوف مجتمعية متأصلة وخطوط تماس بين مجموعات اجتماعية وسياسية مختلفة. واحدة من الأمثلة الأكثر صلة بهذا التماس كان السؤال حول حضور المرأة في الحيز العام والمضايقات المتكررة التي عانت منها خلال وما بعد الثورة. الحالات الأخرى التي أثارت قلقاً متواصلاً تتعلق بمكان مجموعات مهمشة أخرى مثل "أولاد الشوارع" والباعة المتجولين.

\"\"

[الصورة من صفحة "منتديات الشاب كول" على الفيسبوك]

 

منذ الأيام الأولى للثورة، توافد الباعة المتجولون إلى ميدان التحرير حيث خلقوا إقتصاداً محلياً مزدهراً زود ملايين المحتجّين الذين ارتادوا ميدان التحرير لاحقاً بوجبات خفيفة ومشروبات بأسعار معقولة. سواء كانوا عائلات أو مجموعات من الأصدقاء الذين جاؤوا للانضمام للاحتجاج أو للتمتع بالإحساس بالحرية والتفاؤل الناضح من الميدان أو كانوا من المقاتلين المستميتين الذين جعلوا من ميدان التحرير بيتاً لهم، فإن كل هؤلاء اعتمدوا على الباعة المتجولين بدلاً من القهاوي والمطاعم المكلفة في وسط البلد في القاهرة. مع الوقت، إنضم اليهم المزيد من الباعة الذين يبيعون مختلف البضائع وسرعان ما تناثروا جميعهم على أرصفة وشوارع كامل منطقة وسط البلد.

فور سقوط مبارك، شرع الجيش والحكومات المتعاقبة في حملة لإخلاء ميدان التحرير، ليس فقط من المحتجين وإنما أيضاً من الباعة. كان الهدف من هذه المحاولات حفظ النظام العام في الشوارع والأهم من ذلك استعادة صورة الدولة القوية "ووقار" المجتمع المصري، الذي يعتبره هذا المنطق مهدداً نتيجة إحتلال الحيز العام. ونادرة هي الحالات التي لا تؤدي بها الإزالة القسرية إلى تصادم عنيف، يعتبر فيه الباعة و"البلطجية" (غالباً ما تم خلط/استعمال الاثنين بالتبادل) بكونهم الملامين على العنف. جهود سلطات الدولة لإخلاء الباعة من التحرير والشوارع المحيطة شكّلت جزءاً واحداً فقط من حملة شاملة طويلة الأمد تمتد لكافة أطراف البلاد لقمع الظاهرة، والتي يعزو إليها الناس مواطن الشر بما في ذلك الفوضى في الشوارع وأزمة المرور والإخلال بالقانون وعلاوة على كل هذا "تشويه" المظهر الحضاري المصري. يدعم أصحاب المحال التجارية والطبقة الوسطى من سكان المدينة مثل هذه الجهود. فبالنسبة لأصحاب المحال التجارية، من الواضح أن الباعة يشكلون مصدر تهديد لهم لأنهم يبيعون بضاعة بأسعار معقولةعند عتبات محالهم. بينما يرى سكان الحارات التي تقطنها الطبقة الوسطى في المدينة الباعة المتجولين كتهديد لأنهم يعيقون انسياب حركة السير ويسّدون الأرصفة مما يجعل تنقل المارة بسهولة أمراً مستحيلاً. وهناك أيضاً بُعد آخر "أخلاقي" متعلق بشعورهم بالقلق الذي يثيره الفقر وعدم النظام المتجسد بالباعة المتجولين. ومن نافل القول، أنه لا يمكنه عزو السبب الحقيقي للزحمة المرورية الخانقة في القاهرة وفوضى الشوارع وإلقاء اللوم في ذلك على الباعة المتجولين. وإنما نجد تلك الأسباب في غياب نظام ناجع ومعقول للمواصلات العامة، وفي شبكات الشوارع الرديئة، وفي أخطاء كبيرة في التخطيط المديني ونظام رأسمالية المحاسيب. على أية حال، فسكان المناطق المرفهة في مصر عازمون على القضاء على حضور الباعة المتجولين "غير الحضاري" والمهدد أخلاقياً، موظفين لذلك كل التبريرات. عليه، فهم يدعون الشرطة بشكل متكرر حيث يرونها حليفهم الطبيعي في حماسهم ضد الإخلال بالقانون وانعدام النظام، وذلك لقمع الباعة المتجولين ومنعهم من العمل في أحيائهم.

جاء قانون مرسي المذهل كخطوة يائسة في معركة طويلة الأمد للتخلص من الباعة المتجولين. فعلى سبيل المثال، في مارس/آذار 2011 قامت قوات من الجيش والحرس المدني بإخلاء باعة متجولين بالقوة من ميدان رمسيس وإعتقال الكثيرين منهم، فيما قُدِم بعض منهم للمحاكمة لاحقاً حيث حوكموا في المحاكم العسكرية. مؤخراً، وتحديداً في أوكتوبر/تشرين الأول 2012، لقي بائع فاكهة شاب يبلغ من العمر 22 عاماً حتفه في صدامات عنيفة خلال هجوم شنته قوات تابعة للشرطة في محاولة منها لتطهير دوار الجيزة من كل الباعة. الأمر الذي أدى الى احتجاج نظمه زملاؤه الباعة أمام مكتب المدعي العام مطالبين بالاقتصاص من المسؤول.

هذه المعركة المستمرة ليست بالجديدة أو الفريدة والخاصة بمصر وحدها. ولكنها شكلت جزءاً متكاملاً من بناء وعمل الدولة التنموية منذ الخمسينيات والستينيات في أغلب الدول النامية. روجت الدولة التنموية عند الأمم المستقلة حديثاً، والنظام الإقتصادي الذي دعمها في النصف الثاني من القرن العشرين لمشروع تحديث يعتمد على العقلانية والنجاعة والتكنولوجيا ووسائل الإدارة الغربية، بالإضافة إلى النظام. بناء على هذا، فقد اعتبروا الإقتصاد غير الرسمي والباعة المتجولين في صلبها كنقيض لمشروع الدولة ووجودها. الباعة المتجولون جسدوا كل ما هو مخالف للحداثة: عدم النجاعة، الفوضى، والطفيلية وعدم الانضباط. صورة المدن غربية الطراز الحداثية وحسنة التخطيط كانت مهددة بفعل ربطها بالفقر والإخلال بالقانون والفوضى التي يخلقها باعة تقليديو الملبس والعمل. الباعة تجولوا في الشوارع، ولم يكن لهم أماكن تجارة ثابتة ولم يتبعوا أي قانون، كما يقضي بذلك المجتمع المتحضر والحداثي.

وضع زاغموند باومن إصبعه على جوهر الحداثة بوصفه إياها بـ "النظام كهوس". لقد عمل النظام، قبل أي شيء، كمحرك جوهري في إعادة إنتاج نظام إقتصادي سائد. في نظام رأسمالي حداثي، فيما تعمل الشركات الكبرى وفقاً لأسس سلم الإقتصاد، فإن الشركة وحتى رجال الأعمال الصغار ولكن المنظمين- يُعترف بهم كشركاء وعملاء للحداثة لكونهم يتلائمون ضمن نموذج عماده تمركز الانتاج والتوزيع. أما الباعة المتجولون، فهم لا يدفعون الضرائب ولا يحفظون السّجلات كما ويستحيل إدراجهم في المؤشرات الاقتصادية العامة مثل مؤشر الناتج المحلي الإجمالي؛ عليه فهم مضّرون للتخطيط القومي الإقتصادي. والأكثر أهمية من ذلك، فإن الشركات والمؤسسات التجارية الكبرى تكرس الدوّر التنظيمي للدولة لإدارة علاقات الإنتاج، حيث تزود الدولة بكونها"رأسمالي جماعي مثالي" الشروط السياسية المسبقة لعملية تراكم صحية عبر السيطرة على علاقات رأس المال لصالح منافع رأسمالية.

على أية حال وبالرغم من جهود الدول المستقلة حديثاً لدمج الإقتصاد غير الرسمي في منظومة مرتبة والقضاء على البيع في الشوارع، إلا أن كلاهما، أي الإقتصاد غير الرسمي والباعة- قد تابعا الإزدهار بمعزل عن الدولة في البلدان النامية. إن الفشل في التنظيم المركزي، والقطاع الخاص غير المتطور وحقائق إقتصادية أخرى في هذه الدول عنت أن القطاعات الأكثر تقليدية مجبرة على تقديم الحلول والرد على احتياجات الملايين المقصيين من مشاريع الحداثة؛ الاحتياجيات التي فشلت الدولة التنموية ذاتها بتلبيتها. هذا صحيح الآن في القرن الواحد والعشرين كما كان صحيحاً في العقود الأولى للاستقلال. لكن القطاع غير الرسمي يستمر بتوفير الوظائف لهؤلاء الذين يدخلون سوق العمل في كل عام والذين تنعدم أمامهم فرص العثور على عمل في القطاع الرسمي.

تغير معنى التنمية إلى حد كبير على مر العقود، وتغيرت ومعه أيضاً تعريفاتها وتوجهاتها التي تم توظيفها من قبل الحكومات الوطنية. التحولات في معنى التنمية كانت قد واكبت دائماً الإحتياجات المتزايدة للنظام الإقتصادي العالمي. بناء على ذلك، فإن الكثير من الحكومات الوطنية في الجنوب العالمي اضطرت الى تغيير افتراضاتها المبكرة عن التطور والسياسات المتبعة لتحقيق التمنية، وذلك بناء على تطور الإقتصاد العالمي. إلا أن التناقض الآن يكمن في أن الاحتياجات الأخيرة للنظام الرأسمالي العالمي أدت الى مأسسة عمليات من اللارسمية. فالتغييرات في هيئة منظومات التصنيع وفي قطاعات أخرى قد ولّدت منطقاً إنتاجياً جديداً. على سبيل المثال، يعتمد "خط الإنتاج العالمي"، على الإستعانة بشبكات من المصادر الخارجية، بالإضافة الى التعاقد الهرمي ومرونة سوق العمل. هذا النظام على أي حال، ينتج بشكل ثابت المزيد من الإستغلال في العمل، رواتب متدنية، شروط عمل غير آمنة والمزيد من عدم التوازن الوظيفي.

إن النقد المترتب عن هذا التطور وتأثيره على حياة الملايين من الفقراء على المستوى العالمي، حدا بالمؤسسات المالية الكبرى لابتكار سياسات تعزز فعلياً المزيد من أشكال "اللارسمية" من أجل تحسين نصيب هؤلاء العاملين ضمنها وذلك بمساعدة تدخل الدولة. السياسات النيوليبرالية المعززة من قبل "إجماع واشنطن" والمؤيدة بكل طاعة من قبل الجنوب العالمي، بما في ذلك مصر، تقوم، الآن –للمفارقة- بتعزيز مبادرات متواضعة عبر قروض صغيرة وغيرها من برامج التدريب والإقتراض باعتبارها حجر الزاوية المساند للاقتصاد. نتيجة لذلك فإن السياسات المنبثقة عن المؤسسات الإقتصادية إتجاه الإقتصاد غير الرسمي، تهدف إلى "تنظيم" القطاع ولكن ذلك بهدف تعزيزه وليس القضاء عليه.

في سياق مصر طالما اكتسب "التنظيم" دائماً معنى مختلفاً وذلك حسب من يتحدث عنه. ففي الوقت الذي يعتبر تشكيل نقابة للعمال بمثابة سلاح عظيم ضد الاستغلال، إلا أن الطريقة التي يفهم بها المسؤولون المصريون "التنظيم" تختلف بشكل كبير عن تلك التي يفهمها العمال. فبالنسبة لدولة مثل مصر، فإن تنظيم العمل لم يتعلق أبداً بلجم قوة التفاوض الجماعية للعمال، وإنما بتنظيمهم في هيئات قابلة للضبط. في حالة الباعة المتجولين، عنى ذلك تنظيم ظاهرة فوضوية ولكن أيضاً حتمية. وفقاً لهذا المنظور يتم التسامح مع الباعة المتجولين طالما يحتلون مكاناً محدداً، وعليه فيمكن موضعته، إقصاؤه والسيطرة عليه. مؤخراً، قامت كل من نقابة المهن التجارية سوية مع وزارة المالية والإتحاد العام لنقابات عمال مصر المعروف بفساده، بمسح لكافة الباعة المتجولين على صعيد وطني في محاولة منها لتنظيمهم. في الأسابيع الأخيرة، طالب إتحاد الغرف التجارية المصرية الحكومة بتخصيص سوق أسبوعية محددة في مناطق معينة وذلك من أجل "دمجهم في كيان الدولة الرسمي".

حاولت الحكومات المتعاقبة، بما في ذلك تلك التي كانت في فترة حكم مبارك، إبعاد الباعة المتجولين عن مركز القاهرة إلى مدن تابعة لها تقع على أطرافها مثل عبور، وستة أوكتوبر، والشيخ زايد وسلام. مع شبكة المواصلات العامة الضعيفة التي تربط هذه التجمعات السكانية الهانشية (مثال هائل على فشل التخطيط المديني)، فإن النقل يشكل حكم إعدام يحاول كل الباعة تجنبه.

من جهة أخرى، فإن الباعة المتجولين تواقون لتشكيل نقابة عمالية، وعلى الأقل تنظيم صفوفهم جماعياً ضد مضايقات الدولة، وفساد الشرطة والحماية من الاحتيال. وكان أحد باعة القاهرة المتجولين قد أخذ على عاتقه مبادرة للضغط لتشكيل إتحاد عمال مستقل، وتمكن من جمع أربعة آلاف توقيع من باعة من مختلف المحافظات. إلا أن إقامة إتحاد مستقل واجهت الكثير من التعقيدات من قبل وزارة العمل، ويأتي هذا كجزء من استراتيجية حكومات ما بعد مبارك لتوقيف تطور المئات من الاتحادات المستقلة، والتي ازدهرت في فترة ما بعد سقوط مبارك. أسوة بغالبية الحكومات الوطنية في الجنوب العالمي، المسؤولون المصريون اضطروا للعمل وفقاً لإملاءات المؤسسات المالية العالمية والتي صممت سياستها بشكل يدعم مصالح نظام رأسمالي عالمي. ومع ذلك، فإن بيروقراطيات هذه الدول هي أقل مرونة من الرأسمال العالمي فمسؤولو الدولة يلاقون صعوبة في تعلم خدع جديدة والتخلي عن العادات القديمة. لذلك ما تزال الدولة المصرية ملتزمة باللقضاء على الباعة المتجولين الذين يمثلون تهديداً لحفظها للنظام، ذلك في الوقت الذي تصرح سياساتها الرسمية بدمجهم كشركاء في التطور. ومن نافل القول، أن أياً من توجهات الدولة بالنسبة للتعامل مع "مشكلة" الباعة المتجولين لن تكون ناجعة، ففي تجريم قطاع ما غاية في الأهمية لسوق العمل وللسياسيات الاقتصادية الحكومية الرسمية، بدون طرح بدائل، لن تكون هناك نجاعة ولا حكمة. وفي النفس الدرجة، فإن إحتواء وتنظيم الباعة المتجولين عبر ابعادهم عن قلب المدن وإعادة موضعتهم في الهوامش المدينية بأمل تحويلهم إلى غير مرئيين، يعمل بعكس الأسباب التي تقف وراء نجاح القطاع غير الرسمي، وتلك مرونته، لارسميته وقدرته الجسدية على التنقل. حاولت الدولة التحديثية التي تعتمد التنموية منهجاً، في مصر وفي أماكن أخرى، حاولت جاهدة ملائمة الواقع الإجتماعي في إطار متخيًّل؛ إطار أتقصى مواطنيه وهمشهم بشكل ممنهج. لم ينجح هذا في الماضي، ولن ينجح الآن أيضاً.

[نشر المقال على "جدلية" باللغة الإنكليزية وترجمته حنين نعامنة إلى العربية]